فصل: إجماع العلماء على أن صيد الحرم المكي ممنوع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقد أخرج مسلم عن ابن مسعود ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر مُحْرِمًا بقتل حية بمنى‏"‏، وعن ابن عمرو ‏"‏سئل‏:‏ ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏حدثتني إحدى نسوة النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحدأة، والغراب، والحية‏"‏ رواه مسلم أيضًا‏.‏

والأحاديث في الباب كثيرة، والجاري على الأصول تقييد الغراب بالأبقع، وهو الذي فيه بياض، لما روى مسلم من حديث عائشة في عد الفواسق الخمس المذكورة، والغراب الأبقع‏.‏ والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، وما أجاب به بعض العلماء من أن روايات الغراب بالإطلاق متفق عليها، فهي أصح من رواية القيد بالأبقع لا ينهض، إذ لا تعارض بين مقيد ومطلق، لأن القيد بيان للمراد من المطلق‏.‏

ولا عبرة بقول عطاء، ومجاهد، بمنع قتل الغراب للمحرم، لأنه خلاف النص الصريح الصحيح، وقول عامة أهل العلم، ولا عبرة أيضًا بقول إبراهيم النخعي‏:‏ إن في قتل الفأرة جزاء لمخالفته أيضًا للنص، وقول عامة العلماء، كما لا عبرة أيضًا بقول الحكم، وحماد، ‏"‏لا يقتل المحرم العقرب، ولا الحية‏"‏، ولا شك أن السباع العادية كالأسد، والنمر، والفهد، أولى بالقتل من الكلب، لأنها أقوى منه عقرًا، وأشد منه فتكًا‏.‏

واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالكلب العقور، فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن، أنه الأسد، قاله ابن حجر، وعن زيد بن أسلم أنه قال‏:‏ وأيُّ كلب أعقر من الحية‏.‏

وقال زفر‏:‏ المراد به هنا الذئب خاصة، وقال مالك في الموطأ‏:‏ كل ما عقر الناس، وعدا عليهم، وأخافهم، مثل الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، فهو عقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة‏.‏ ولا يحلق به في هذا الحكم سوى الذئب، واحتج الجمهور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ‏}‏ فاشتقها من اسم الكلب، وبقوله صلى الله عليه وسلم، في ولد أبي لهب ‏"‏اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك فقتله الأسد‏"‏ رواه الحاكم وغيره بإسناد حسن‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ التحقيق أن السباع العادية ليست من الصيد، فيجوز قتلها للمحرم، وغيره في الحرم وغيره‏.‏ لما تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها، لأن قوله ‏"‏العقور‏"‏ علة لقتل الكلب فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك‏.‏

ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة المتفق عليه ‏"‏لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان‏"‏ أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر، مانع من استيفاء النظر في المسائل كائنًا ما كان غضبًا أو غيره كجوع وعطش مفرطين، وحزن وسرور مفرطين، وحقن وحقب مفرطين، ونحو ذلك، وإلى هذا أشار في ‏(‏مراقي السعود‏)‏ بقوله في مبحث العلة‏:‏

وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم

ويدل لهذا ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال‏:‏ الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور والحدأة والسبع العادي‏"‏ وهذا الحديث حسنه الترمذي‏.‏

وضعف ابن كثير رواية يزيد بن أبي زياد، وقال فيه ابن حجر في التلخيص فيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف‏.‏ وفيه لفظة منكرة وهي قوله‏:‏ ‏"‏ويرمي الغراب ولا يقتله‏"‏، وقال النووي في شرح المهذب‏:‏ إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها‏.‏

قال مقيده‏:‏ عفا الله عنه‏:‏ تضعيف هذا الحديث، ومنع الاحتجاج به متعقب من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أنه على شرط مسلم، لأن يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له البخاري تعليقًا، ومنع الاحتجاج بحديث على شرط مسلم لا يخلو من نظر، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه‏.‏ أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية فيزيد بن أبي زياد عند مسلم مقبول الرواية، وإليه الإشارة بقول العراقي في ألفيته‏:‏

فاحتاج أن ينزل في الإسناد إلى يزيد بن أبي زياد

الوجه الثاني‏:‏ أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم والسبع العادي، إما أن يدخل في المراد به، أو يلحق به إلحاقًا صحيحًا لامراء فيه، وما ذكره الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط، لأنه أشبه به من غيره لا يظهر، لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلًا أشد من عقر الكلب والذئب، وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر، ويمنع قتل قويه، لأن فيه علة الحكم وزيادة، وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول، لا من القياس، خلافًا للشافعي وقوم، كما قدمنا في سورة النساء‏.‏

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه‏:‏ قلت‏:‏ العجب من أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق، والعقر، كما فعل مالك، والشافعي، رحمهما الله‏.‏

واعلم أن الصَّيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط‏.‏ فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه والصغار منه، والكبار عنده سواء، إلا المتولد من بين مأكول اللحم، وغير مأكوله، فلا يجوز اصطياده عنده، وإن كان يحرم أكله، كالسمع وهو المتولد من بين الذئب، والضبع، وقال‏:‏ ليس في الرخمة والخنافس، والقردان والحلم، وما لا يؤكل لحمه شيء‏.‏ لأن هذا ليس من الصَّيد، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ، فدل أن الصَّيد الذي حرم عليهم، هو ما كان حلالًا لهم قبل الإحرام، وهذا هو مذهب الإمام أحمد‏.‏

أما مالك ـ رحمه الله ـ فذهب إلى أن كل ما يعدو من السباع، كالهر والثعلب، والضبع، وما أشبهها، لا يجوز قتله‏.‏ فإن قتله فداه، قال‏:‏ وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها، وهي مثل فراخ الغربان‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها، دون غيرها‏.‏ بأنها صيد يلزم فيه الجزاء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

ولم يجز مالك للمحرم قتل الزنبور، وكذلك النمل والذباب والبراغيث، وقال‏:‏ إن قتلها محرم يطعم شيئًا، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور، وبعض العلماء شبههه بالعقرب، وبعضهم يقول‏:‏ إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله، وإلا فلا، وأقيسها ما ثبت عن عمر بن الخطاب‏.‏ لأنه مما طبيعته أن يؤذي‏.‏

وقد قدمنا عن الشافعي، وأحمد، وغيرهم، أنه لا شيء في غير الصَّيد المأكول، وهو ظاهر القرآن العظيم‏.‏ * * *

المسألة الرابعة‏:‏ أجمع العلماء على أن المحرم إذا صاد الصَّيد المحرم عليه، فعليه جزاؤه، كما هو صريح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ‏}‏ ‏.‏

اعلم أولًا أن المراد بقوله ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ أنه متعمد قتله، ذاكر إحرامه، كما هو صريح الآية‏.‏ وقول عامة العلماء‏.‏

وما فسره به مجاهد، من أن المراد أنه متعمد لقتله ناسٍ لإحرامه، مستدلًا بقوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏ومن عاد فينتقم الله منه‏}‏‏.‏ قال‏:‏ لو كان ذاكرًا لإحرامه، لوجبت عليه العقوبة لأول مرة‏.‏ وقال‏: إن كان ذاكرًا لإحرامه، فقد بطل حجه لارتكابه محظور الإحرام غير صحيح، ولا ظاهر لمخالفته ظاهر القرآن بلا دليل‏.‏ ولأنه تعالى‏:‏ ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ ، يدل على أنه متعمد ارتكاب المحظور، والناسي للإحرام غير متعمد محظورًا‏.‏

إذا علمت ذلك، فاعلم أن قاتل الصَّيد متعمدًا، عالمًا بإحرامه، عليه الجزاء المذكور، في الآية، بنص القرآن العظيم، وهو قول عامة العلماء‏.‏ خلافًا لمجاهد، ولم يذكر الله تعالى، في هذه الآية الكريمة حكم الناسي، والمخطئ‏.‏

والفرق بينهما‏:‏ أن الناسي هو من يقصد قتل الصَّيد ناسيًا إحرامه، والمخطىء هو من يرمي غير الصَّيد، كما لو رمى غرضًا فيقتل الصَّيد من غير قصد لقتله‏.‏

ولا خلاف بين العلماء أنهما لا أثم عليهما، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏.‏ وَلِمَا قدَّمنا في صحيح مسلم ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ أن الله قال‏:‏ قد فعلت‏"‏‏.‏

أما وجوب الجزاء عليهما فاختلف فيه العلماء‏.‏

فذهب جماعة من العلماء‏:‏ منهم المالكية، والحنفية، والشافعية، إلى وجوب الجزاء، في الخطأ، والنسيان، لدلالة الأدلة‏.‏ على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد، وبين غيره، وقالوا‏:‏ لا مفهوم مخالفة لقوله متعمدًا لأنه جري على الغالب، إذ الغالب ألا يقتل المحرم الصَّيد إلا عامدًا، وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته، وإليه الإشارة بقول صاحب ‏(‏مراقي السعود‏)‏ في موانع اعتبار مفهوم المخالفة‏:‏

أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّـاتِى فِى حُجُورِكُمْ‏}‏ لجريه على الغالب، وقال بعض من قال بهذا القول، كالزهري‏:‏ وجب الجزاء في العمد بالقرآن العظيم، وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي‏:‏ إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس، وعمر فَنِعمَّا هي، وما أحسنها إسوة‏.‏

واحتج أهل هذا القول‏.‏ بأنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏سئل عن الضبع فقال‏:‏ ‏"‏هي صيد‏"‏، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا، ولم يقل عمدًا ولا خطأ، فدل على العموم، وقال ابن بكير من علماء المالكية‏:‏ قوله سبحانه ‏{‏مُّتَعَمّدًا‏}‏ لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وذكر التعمد لبيان أن الصَّيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمدًا كفارة‏.‏

وقال القرطبي في تفسيره‏:‏ إن هذا القول بوجوب ‏"‏الجزاء على المخطىء، والناسي والعامد‏"‏، قاله ابن عباس، وروي عن عمر، وطاوس، والحسن، وإبراهيم، والزهري، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم‏.‏

وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي، والمخطىء لا جزاء عليهما، وبه قال القرطبي، وأحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين، وسعيد بن جبير، وأبو ثور، وهو مذهب داود، وروي أيضًا عن ابن عباس، وطاوس، كما نقله عنهم القرطبي‏.‏

واحتج أهل هذا القول بأمرين‏:‏

الأول‏:‏ مفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا‏}‏ ، فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأصل براءة الذمة، فمن ادعى شغلها، فعليه الدليل‏.‏

قال مقيده‏:‏ عفا الله عنه‏:‏ هذا القول قوي جدًا من جهة النظر، والدليل‏.‏ * * *

المسألة الخامسة‏:‏ إذا صاد المحرم الصَّيد، فأكل منه، فعليه جزاء واحد لقتله، وليس في أكله إلا التوبة والاستغفار، وهذا قول جمهور العلماء، وهو ظاهر الآية خلافًا لأبي حنيفة القائل بأن عليه أيضًا جزاء ما أكل يعني قيمته، قال القرطبي‏:‏ وخالفه صاحباه في ذلك، ويروى مثل قول أبي حنيفة عن عطاء‏.‏ * * *

المسألة السادسة‏:‏ إذا قتل المحرم الصَّيد مرة بعد مرة، حكم عليه بالجزاء في كل مرة، في قول جمهور العلماء منهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة وغيرهم، وهو ظاهر قوله تعالى‏:‏

{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا‏}‏ ، لأن تكرار القتل يقتضي تكرار الجزاء، وقال بعض العلماء‏:‏ لا يحكم عليه بالجزاء إلا مرة واحدة‏:‏ ‏"‏فإن عاد لقتله مرة ثانية لم يحكم عليه، وقيل له‏:‏ ينتقم الله منك‏"‏، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ‏}‏ ‏.‏

ويُروى هذا القول عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وإبراهيم، ومجاهد، وشريح، كما نقله عنهم القرطبي، وروي عن ابن عباس أيضًا أنه يضرب حتى يموت‏.‏ * * *

المسألة السابعة‏:‏ إذا دل المحرم حلالا على صيد فقتله، فهل يجب على المحرم جزاء لتسببه في قتل الحلال للصيد بدلالته له عليه أو لا‏؟‏ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة إلى أن المحرم الدال يلزمه جزاؤه كاملًا، ويروى نحو ذلك عن علي، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد وبكر المزني، وإسحاق، ويدل لهذا القول سؤال النَّبي صلى الله عليه وسلم، أصحابه، ‏"‏هل أشار أحد منهم إلى أبي قتادة على الحمار الوحشي‏"‏‏؟‏

فإن ظاهره أنهم لو دلوه عليه كان بمثابة ما لو صادوه في تحريم الأكل‏.‏ ويفهم من ذلك لزوم الجزاء، والقاعدة لزوم الضمان للمتسبب إن لم يمكن تضمين المباشر، والمباشر هنا لا يمكن

تضمينه الصَّيد‏.‏ لأنه حلال، والدال متسبب، وهذا القول هو الأظهر، والذين قالوا به منهم من أطلق الدلالة، ومنهم من اشترط خفاء الصَّيد بحيث لا يراه دون الدلالة، كأبي حنيفة، وقال الإمام الشافعي وأصحابه، لا شيء على الدال‏.‏

وروي عن مالك نحوه، قالوا‏:‏ لأن الصَّيد يضمن بقتله، وهو لم يقتله وإذا علم المحرم أن الحلال صاده من أجله فأكل منه، فعليه الجزاء كاملًا عند مالك، كما صرح بذلك في موطئه، وأما إذا دل المحرم محرمًا آخر على الصَّيد فقتله، فقال بعض العلماء‏:‏ عليهما جزاء واحد بينهما، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال عطاء، وحماد بن أبي سليمان كما نقله عنهم ابن قدامة في ‏(‏المغني‏)‏، وقال بعض العلماء‏:‏ على كل واحد منهما جزاء كامل، وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، والحارث العكلي، وأصحاب الرأي، كما نقله عنهم أيضًا صاحب ‏(‏المغني‏)‏‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ الجزاء كله على المحرم المباشر، وليس على المحرم الدال شيء، وهذا

قول الشافعي، ومالك، وهو الجاري على قاعدة تقديم المباشر على المتسبب في الضمان، والمباشر هنا يمكن تضمينه لأنه محرم، وهذا هو الأظهر، وعليه‏:‏ فعلى الدال الاستغفار والتوبة، وبهذا تعرف حكم ما لو دل محرم محرمًا، ثم دل هذا الثاني محرمًا ثالثًا، وهكذا، فقتله الأخير، إذ لا يخفى من الكلام المتقدم أنهم على القول الأول شركاء في جزاء واحد‏.‏

وعلى الثاني على كل واحد منهم جزاء، وعلى الثالث لا شيء إلا على من باشر القتل‏.‏ * * *

المسألة الثامنة‏:‏ إذا اشترك محرمون في قتل صيد بأن باشروا قتله كلهم، كما إذا حذفوه بالحجارة والعصى حتى مات، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ على كل واحد منهم جزاء كامل، كما لو قتلت جماعة واحدًا، فإنهم يقتلون به جميعًا، لأن كل واحد قاتل‏.‏ وكذلك هنا كل واحد قاتل صيدًا فعليه جزاء‏.‏ وقال الشافعي ومن وافقه‏:‏ عليهم كلهم جزاء واحد، لقضاء عمر وعبد الرحمان، قاله القرطبي، ثم قال أيضًا‏:‏ وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له ذلك، فقال‏:‏ عليكم كلكم كبش، قالوا‏:‏ أو على كل واحد منا كبش، قال‏:‏ ‏"‏إنكم لمعزز بكم عليكم كلكم كبش‏"‏‏.‏ قال اللغويون‏:‏ لمعزز بكم أي لمشدد عليكم‏.‏

وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعًا فقال‏:‏ ‏"‏عليهم كبش يتخارجونه بينهم‏"‏ ودليلنا قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ ‏.‏

وهذا خطاب لكل قاتل، وكل واحد من القاتلين الصَّيد قاتل نفسًا على التمام والكمال بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص‏.‏ وقد قلنا بوجوبه إجماعًا منا ومنهم فثبت ما قلناه‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا قتل جماعة صيدًا في الحرم وهم محلون، فعليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل أو الحرم، فإن ذلك لا يختلف‏.‏

وقال مالك‏:‏ على كل واحد منهم جزاء كامل‏.‏ بناء على أن الرجل يكون محرمًا بدخوله الحرم، كما يكون محرمًا بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي فهو هاتك لها في الحالتين‏.‏

وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي، قال‏:‏ السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة‏.‏ وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه‏.‏

وإذا قتل المحلون صيدًا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محترمة، بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة فإن كل واحد منهم قاتل دابة‏.‏ ويشتركون في القيمة، قال ابن العربي‏:‏ وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا،اهـ من القرطبي‏.‏ * * *

المسألة التاسعة‏:‏ اعلم أن الصَّيد ينقسم إلى قسمين‏:‏ قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير‏.‏

وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة، وخالف الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ الجمهور، فقال‏:‏ إن المماثلة معنوية، وهي القيمة، أي قيمة الصَّيد في المكان الذي قتله فيه، أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصَّيد في موضع قتله، فيشتري بتلك القيمة هديًا إن شاء، أو يشتري بها طعامًا، ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر‏.‏

واحتج أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبرًا في النعمامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به، لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه، ويختلف فيه وجه النظر‏.‏

ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ ، فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي، ثم قال‏:‏ ‏{‏مِنَ النَّعَمِ‏}‏ فصرح ببيان جنس المثل، ثم قال‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ‏}‏ وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ راجع إلى المثل من النعم، لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير‏.‏

ثم قال ‏{‏هَدْيًا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ والذي يتصور أن يكون هديًا مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديًا ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها يعيد من ظاهر الآية، فاتضح أن المراد مثل من النعم، وقوله لو كان الشبه الخلقي معتبرًا لما أوقفه على عدلين‏؟‏ أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصَّيد من كبر وصغر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص، قاله القرطبي‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ المراد بالمثلية في الآية التقريب، وإذًا فنوع المماثلة قد يكون خفيًا لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة، ككون الشاة مثلًا للحمامة لمشابهتها لها في عب الماء والهدير‏.‏

وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم، فاعلم أن قاتل الصَّيد مخير بينه، وبين الإطعام، والصيام، كما هو صريح الآية الكريمة، لأن ‏"‏أو‏"‏ حرف تخيير، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَامًا‏}‏ ، وعليه جمهور العلماء‏.‏

فإن اختار جزاء بالمثل من النعم، وجب ذبحه في الحرم خاصة، لأنه حق لمساكين الحرم، ولا يجزىء في غيره كما نص عليه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ والمراد الحرم كله، كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ مع أن المنحر الأكبر مني، وإن اختار الطعام، فقال مالك‏:‏ أحسن ما سمعت فيه، أنه يقوم الصَّيد بالطعام، فيطعم كل مسكين مدًا، أو يصوم مكان كل مد يومًا‏.‏

وقال ابن القاسم عنه‏:‏ إن قَوَّمَ الصَّيد بالدراهم، ثم قَوَّم الدراهم بالطعام، أجزأه‏.‏ والصواب الأول‏.‏ فإن بقي أقل من مد تصدق به عند بعض العلماء، وتممه مدًا كاملًا عند بعض آخر، أما إذا صام، فإنه يكمل اليوم المنكسر بلا خلاف‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ إذا اختار الإطعام، أو الصيام، فلا يقوم الصَّيد الذي له مثل، وإنما يقوم مثله من النعم بالدراهم، ثم تقوم الدراهم بالطعام، فيطعم كل مسكين مدًا، أو يصوم عن كل مد يومًا، ويتمم المنكسر‏.‏

والتحقيق أن الخيار لقاتل الصَّيد الذي هو دافع الجزاء‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ الخيار للعدلين الحكمين، وقال بعضهم‏:‏ ينبغي للمحكمين إذا حكما بالمثل أن يخيرا قاتل الصَّيد بين الثلاثة المذكورة‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ إذا حكما بالمثل لزمه، والقرآن صريح في أنه لا يلزمه المثل من النعم، إلا إذا اختاره على الإطعام والصَّوم، للتخيير المنصوص عليه بحرف التخيير في الآية‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ هي على الترتيب، فالواجب الهدي، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فالصَّوم، ويروى هذا عن ابن عباس، والنخعي وغيرهما، ولا يخفى أن في هذا مخالفة لظاهر القرآن، بلا دليل‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يصوم عن كل مدين يومًا واحدًا اعتبارًا بفدية الأذى، قاله القرطبي‏.‏ واعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة، أنه يصوم عدل الطعام المذكور، ولو زاد الصيام عن شهرين، أو ثلاثة‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ لا يتجاوز صيام الجزاء شهرين‏.‏ لأنهما أعلى الكفارات، واختاره ابن العربي، وله وجه من النظر، ولكن ظاهر الآية يخالفه‏.‏

وقال يحيى بن عمر من المالكية‏:‏ إنما يقال‏:‏ كم رجلًا يشبع من هذا الصَّيد، فيعرف العدد، ثم يقال‏:‏ كم من الطعام يشبع هذا العدد‏؟‏ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده، قال القرطبي‏:‏ وهذا قول حسن احتاط فيه‏.‏ لأنه قد تكون قيمة الصَّيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام‏.‏

واعلم أن الأنواع الثلاثة واحد منها يشترط له الحرم إجماعًا، وهو الهدي كما تقدم، وواحد لا يشترط له الحرم إجماعًا، وهو الصَّوم، وواحد اختلف فيه، وهو الإطعام‏.‏ فذهب بعض العلماء‏:‏ إلى أنه لا يطعم إلا في الحرم، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم في موضع إصابة الصَّيد، وذهب بعضهم إلى أنه يطعم حيث شاء‏.‏ وأظهرها أنه حق لمساكين الحرم‏.‏ لأنه بدل عن الهدي، أو نظير له، وهو حق لهم إجماعًا، كما صرح به تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ ، وأما الصَّوم فهو عبادة تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق، فله فعلها في أي موضع شاء‏.‏

وأما إن كان الصَّيد لا مثل له من النعم كالعصافير‏.‏ فإنه يقوم، ثم يعرف قدر قيمته من الطعام، فيخرجه لكل مسكين مد، أو يصوم عن كل مد يومًا‏.‏

فتحصل أن ماله مثل من النعم يخير فيه بين ثلاثة أشياء‏:‏ هي الهدي، بمثله، والإطعام، والصيام‏.‏ وأن ما لا مثل له يخير فيه بين شيئين فقط‏:‏ وهما الإطعام، والصيام على ما ذكرنا‏.‏

واعلم أن المثل من النعم له ثلاث حالات‏:‏

الأولى‏:‏ أن يكون تقدم فيه حكم من النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثانية‏:‏ أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصَّحابة، أو التابعين مثلًا‏.‏

الثالثة‏:‏ ألا يكون تقدم فيه حكم منه صلى الله عليه وسلم، ولا منهم رضي الله عنهم‏.‏ فالذي حكم صلى الله عليه وسلم فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك، وذلك كالضبع، فإنه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بكبش، قال ابن حجر في التلخيص ما نصه‏:‏ حديث ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش‏"‏ أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان وأحمد، والحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر بلفظ سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال‏:‏ ‏"‏هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم‏"‏، ولفظ الحاكم ‏"‏جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشًا‏"‏، وجعله من الصَّيد وهو عند ابن ماجه إلا أنه لم يقل نجديًا، قال الترمذي‏:‏ سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق وقد أعل بالوقف‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ هو حديث جيد تقوم به الحجة، ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر قال‏:‏ ‏"‏لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش‏"‏‏.‏ الحديث، ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفًا، وصحح وقفه في هذا الباب الدارقطني، ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل‏"‏، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني، والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه، وقد أعل بالإرسال‏.‏

ورواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلًا وقال‏:‏ لا يثبت مثله لو انفرد، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار المتقدم، وقال البيهقي‏:‏ وروي عن ابن عباس موقوفًا أيضًا‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ قضاؤه صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له، وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم، والحديث إذا ثبت صحيحًا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى‏.‏ كما هو الصحيح عند المحدثين‏:‏ لأن الوصل والرفع من الزيادات، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف، وإليه الإشارة بقول صاحب ‏(‏مراقي السعود‏)‏‏:‏

والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ‏.‏‏.‏ لخ

وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصَّحابة، أو ممن بعدهم‏.‏ فقال بعض العلماء‏:‏ يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد، لأن الله قال‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ‏}‏ ، وقد حكما بأن هذا مثل لهذا‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ لا بد من حكم عدلين من جديد، وممن قال به مالك، قال القرطبي‏:‏ ولو اجتزأ بحكم الصَّحابة رضي الله عنهم لكان حسنًا‏.‏

وروي عن مالك أيضًا أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة، وحمار الوحش، والظبي، والنعامة، فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف، وقد روي عن عمر ‏"‏أنه حكم هو وعبد الرحمان بن عوف في ظبي بغنز‏"‏ أخرجه مالك والبيهقي وغيرهما‏.‏ وروي عن عبد الرحمان بن عوف، وسعد رضي الله عنهما ‏"‏أنهما حكما في الظبي بتيس أعفر‏"‏، وعن ابن عباس وعمر، وعثمان وعلي، وزيد بن ثابت ومعاوية، وابن مسعود وغيرهم، ‏"‏أنهم قالوا‏:‏ في النعامة بدنة‏"‏، أخرجه البيهقي وغيره‏.‏ وعن ابن عباس وغيره ‏"‏أن في حمار الوحش والبقرة بقرة، وأن في الأيل، بقرة‏"‏‏.‏

وعن جابر ‏"‏أن عمر قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة‏"‏، أخرجه مالك والبيهقي، وروى الأجلح بن عبد الله هذا الأثر عن جابر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح موقوف على عمر كما ذكره البيهقي وغيره، وقال البيهقي‏:‏ وكذلك رواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن عمر من قوله، وعن ابن عباس ‏"‏أنه قضى في الأرنب بعناق، وقال هي تمشي على أربع، والعناق كذلك، وهي تأكل الشجر، والعناق كذلك وهي تجتر، والعناق كذلك‏"‏ رواه البيهقي‏.‏

وعن ابن مسعود ‏"‏أنه قضى في اليربوع بحفر أو جفرة‏"‏ رواه البيهقي أيضًا، وقال البيهقي‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ قال أبو زيد‏:‏ الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه، وعن شريح أنه قال‏:‏ لو كان معي حكم حكمت في الثعلب بجدي، وروي عن عطاء أنه قال في الثعلب شاة، وروي عن عمر وأربد رضي الله عنهما ‏"‏أنهما حكما في ضب قتله أربد المذكور بجدي قد جمع الماء والشجر‏"‏ رواه البيهقي وغيره‏.‏

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه ‏"‏أنه حكم في أم حبين بجلان من الغنم‏"‏، والجلان الجدي، ورواه البيهقي وغيره‏.‏

تنبيه

أقل ما يكون جزاء من النعم عند مالك شاة تجزىء ضحية، فلا جزاء عنده بجفرة ولا عناق،

مستدلًا بأن جزاء الصَّيد كالدية لا فرق فيها بين الصغير والكبير، وبأن الله قال‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ فلا بد أن يكون الجزاء يصح هديًا، ففي الضب واليربوع عنده قيمتها طعامًا‏.‏ قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ قول الجمهور في جزاء الصغير بالصغير، والكبير بالكبير، هو الظاهر، وهو ظاهر قوله تعالى ‏{‏فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا صحيح، وهو اختيار علمائنا يعني مذهب الجمهور الذي هو اعتبار الصغر والكبر والمرض ونحو ذلك كسائر المتلفات‏.‏ * * *

المسألة العاشرة‏:‏ إذا كان ما أتلفه المحرم بيضًا، فقال مالك‏:‏ في بيض النعمامة عشر ثمن البدنة، وفي بيض الحمامة المكية عشر ثمن شاة، قال ابن القاسم‏:‏ وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر، فإن استهل فعليه الجزاء كاملًا كجزاء الكبير من ذلك الطير، قال ابن الموار بحكومة عدلين وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر قيمته‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ وهو الأظهر، قال القرطبي‏:‏ روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه‏"‏، أخرجه الدارقطني، وروى أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏في بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين‏"‏، قاله القرطبي، وإن قتل المحرم فيلًا فقيل‏:‏ فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان، وإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعامًا، فيكون عليه ذلك‏.‏

قال القرطبي‏:‏ والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام إلى الحد الذي نزل فيه والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام وأما إن نظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه، فيكثر الطعام وذلك ضرر اهـ‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ هذا الذي ذكره القرطبي في اعتبار مثل الفيل طعامًا فيه أمران‏:‏

الأول‏:‏ أنه لا يقدر عليه غالبًا، لأن نقل الفيل إلى الماء، وتحصيل المركب ورفع الفيل فيه، ونزعه منه، لا يقدر عليه آحاد الناس غالبًا، ولا ينبغي التكليف العام إلا بما هو مقدور غالبًا لكل أحد‏.‏

والثاني‏:‏ أن كثرة القيمة لا تعد ضررًا، لأنه لم يجعل عليه إلا قيمة ما أتلف في الإحرام، ومن أتلف في الإحرام حيوانًا عظيمًا لزمه جزاء عظيم، ولا ضرر عليه، لأن عظم الجزاء تابع لعظم الجناية كما هو ظاهر‏.‏ * * *

المسألة الحادية عشرة‏:‏

إجماع العلماء على أن صيد الحرم المكي ممنوع

وأن قطع شجره، ونباته حرام، إلا الإذخر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة‏:‏ ‏"‏إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكة، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته، إلا لمعرف‏"‏‏.‏ فقال العباس -إلا الإذخر، فإنه لا بد لهم منه، فإنه للقيون والبيوت، فقال‏:‏ ‏"‏إلا الإذخر‏"‏، متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وعن أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال‏:‏ ‏"‏لا ينفرد صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد‏"‏، فقال العباس‏:‏ إلا الإذخر، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إلا الإذخر‏"‏ متفق عليه أيضًا‏.‏ وفي لفظ ‏"‏لا يعضد شجرها‏"‏، بدل قوله ‏"‏لا يختلى شوكها‏"‏، والأحاديث في الباب كثيرة‏.‏

واعلم أن شجر الحرم ونباته طرفان، وواسطة طرف لا يجوز قطعه إجماعًا، وهو ما أنبته الله في الحرم من غير تسبب الآدميين، وطرف يجوز قطعه إجماعًا، وهو ما زرعه الآدميون من الزروع، والبقول، والرياحين ونحوها، وطرف اختلف فيه، وهو ما غرسه الآدميون من غير المأكول، والمشموم، كالأثل، والعوسج، فأكثر العلماء على جواز قطعه‏.‏

وقال قوم منهم الشافعي بالمنع، وهو أحوط في الخروج من العهدة، وقال بعض العلماء‏:‏ إن نبت أولا في الحل، ثم نزع فغرس في الحرم جاز قطعه، وإن نبت أولًا في الحرم، فلا يجوز

قطعه، ويحرم قطع الشوك والعوسج، قال ابن قدامة في ‏(‏المغني‏)‏، وقال القاضي، وأبو الخطاب‏:‏ لا يحرم، وروي ذلك عن عطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، والشافعي، لأنه يؤذي بطبعه، فأشبه السباع من الحيوان‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ قياس شوك الحرم على سباع الحيوان مردود من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن السباع تتعرض لأذى الناس، وتقصده بخلاف الشوك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يعضد شوكه‏"‏، والقياس المخالف للنص فاسد الاعتبار‏.‏ قال في ‏(‏مراقي السعود‏)‏‏:‏ والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى

وفساد الاعتبار قادح مبطل للدليل، كما تقرر في الأصول، واختلف في قطع اليابس من الشجر، والحشيش، فأجازه بعض العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد‏.‏ لأنه كالصيد الميت لا شيء على من قده نصفين، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ولا يختلى خلاه‏"‏‏.‏ لأن الخلا هو الرطب من النبات، فيفهم منه أنه لا بأس بقطع اليابس‏.‏